علم اللّهجات واللّغة العربيّة
تعريف علم اللّهجات: (Dialectology) :
هو الدّراسة المنهجيّة لكلّ المتغيرات الصّوتيّة والتّركيبيّة والدّلاليّة في مجال اللّغة الحيويّ (العربيّة، أنموذجا) في حدود الدّول أو في ما تبيّنه الجغرافيا اللّهجيّة من حدود لسانيّة تضبط المتغيّرات حسب انتشارها (إذا كانت تتجاوز تلك الحدود السّياسيّة) كاستعمال النفي «ما…ش» («ما نِمْتِــش»، مثلا) إلاّ في شمال لبنان وسوريا، حيث يُستعمل النفي بـ«ما» وحدها: «ما نمت».
وقد جاءت في كتب اللّغويّين القدامى ملاحظات متفرّقة عن الخاصّيات اللّهجيّة (كالكشكشة التّي تصف إبْدال الشّين من كاف الخِطاب للمؤنّث [في لهجتي بَني أسَد أو ربيعَة] تلك التي نرى لها امتدادا في الزّمن ، إذ ما زلنا نجد آثارها في جنوب المملكة العربيّة السّعوديّة وشمال اليمن والكسكسة - وهي أن تُلحاق بِكافِ المؤنّث سِينٌ عندَ الوَقْفِ [في لهجة ِتَمِيمٍ]، فيقالُ: «أكْرَمْتُكِسْ»، عوض «أكرمتكِ» و«بِكِسْ» عوض «بكِ». ويبدو أنّ استعمالها قد تواصل كذلك. وقد خصّص سيبويه للمتغيّرات اللّهجيّة حيّزا مهمّا في كتابه اهتمّ فيه بالمتغيّرات الصّوتيّة النّطقيّة وكذلك بالمتغيّرات التّركيبيّة.
وإذا عزف العرب عن اللّسانيّات اللهجيّة وعلم اللّهجات فلم تحظ لديهم بالاهتمام اللاّزم فإنّ الباحثين الغربيّين قد ألّفوا فيها كتبا ومصنّفات وقواميس ومقالات لا تكاد تحصى، نذكر منها أعمال لاندبارغ (Landberg) في بداية القرن العشرين عن لهجات دثينة وحضرموت وأعمال فويديش (Woidisch) عن العاميّة المصريّة والدّراسة المقارنة بين لهجات الكويت والمغرب ومصر وسوريا التّي قام بها بروستاد (Brustad). وغيرهؤلاء كثير.
وقد جمع حاييم رابين (H.Rabin) في كتابه اللهجات العربية الغربية القديمة (Ancien West Arabian, 1951) أغلب الملاحظات التّي جاءت في كتب اللّغويين العرب ، كما رسم ، على هدي منها و ممّا تعرّف إليه من مواقع القبائل العربيّة ، خرائط تجسّد جغرافيا التّوزيع اللّهجيّ لمختلف طرق النّطق أو التّراكيب الخاصّة أو وجوه استعمال الأدوات النحويّة كحروف الجرّ والعطف والأسماء الموصولة وغيرها .
ولقد أجمع المؤرّخون واللّغويون العرب القدامى على أنّ الواقع اللّغويّ الذي كان سائدا في شبه الجزيرة العربيّة قبل الإسلام وبعده إلى حدود نهاية القرن الرّابع ، كان يتّسم بالتعدّد والتّداخل الشّديدين ، بحكم التّركيبة القبليّة للمجتمع العربيّ وقتذاك وعدم خضوعه لسلطة سياسيّة واحدة إلا بقيام الدّولة الإسلاميّة .
وكانت لهذا الواقع اللّغويّ أهمية بالغة ، لأنّ القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف . وقد اختُلف في تفسير هذه الأحرف السّبعة . لكنّ الغالب على الظنّ أنّ دلالتها رمزيّة .وهي الكثرة . وذلك لأنّ الباحثين وجدوا في لغة القرآن أكثر من خمسين لهجة .
وكذلك الشأن في الحديث النّبويّ الشّريف حيث نجد الرّسول ( صلعم ) ينطق بألفاظ كثيرة لم يكن يعرفها أهل الحجاز . وهو ما جعل عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول له : " يا رسولَ الله ، نحنُ بنو أبٍ واحد ، ونراك تُكلِّم وُفود العرب بما لا نَعْرِفه ، فمَن عَلَّمك؟ " .
ولقد كان النّحاة واللّغويّون القدامى مطّلعين اطّلاعا دقيقا ، واسعا على اللّهجات العربيّة ، بفضل خروجهم ، على نحو متكرّر ، إلى البوادي ومشافهتهم للأعراب .وقد اختلفت مواقفهم منها . فمنهم من فاضل بينها ، حاصرا الفصاحة في قبائل الحجاز ونجد وتهامة .ومنهم ضيّق في صفة الفصاحة فجعلها مقصورة على لهجة قريش .ومنهم من عدّ كلّ اللّهجات العربيّة فصيحة .
ولعلّ من أبرز المتناقضات في هذا الشأن أنّ بعض أولئك النّحاة واللّغويّين قد عدّوا لغة قريش أفصح اللّغات ، على الرّغم من أنّها كانت تمارس التّجارة على نطاق واسع مع الفرس والهنود واليمنيّين والسّريان وغيرهم و اعتمدوا معايير ذوقيّة للاستنقاص من بعض اللّهجات البدويّة وتفضيل لهجة قبيلة قريش الحضريّة عليها ، مستهجنين بعض الظواهر النطقيّة الخاصّة بتلك اللّهجات مثل الكشكشة – وهي نطق الشّين مكان كاف خطاب المؤنّث عند الوقف نحو :" مِنْشْ" بدل "مِنْكْ" أو بعدها نحو : "مِنْكِشْ" عوضا عن "مِنْكْ" ، كما هو الحال عند أسد وهوزان والشّنشنة – وهي ابدال الكاف شينا نحو : " لبّيش" عوضا عن " لبّيك " – وقد اختصّت بها بعض اللّهجات اليمنيّة –والعنعنة – وهي إبدال العين من الهمزة المفتوحة نحو : " عَنّا " بدلا من " أنّ " في لهجات قيس و قضاعة وتميم - والاستبطاء - وهو نطق العين الساكنة نوناً في الفعل " أعطى " ( أنطى ) دون غيره . وذلك في لهجات هذيل و الأنصار و قيس و أهل اليمن و سعد بن بكر – والكسكسة – وهي زيادة سين بعد كاف الخطاب في المؤنّث لا المذكّر نحو : "أعطيتُكِسْ "بدلا من "أعطيْتُكْ" - والتّضجّع – وهو التّباطؤ والتّراخي في الكلام ، كما في لغة قيس وتميم وأسد - والطّمطُمانيّة - وهي إبدال لام التّعريف ميما كقول الحميريّين : "طاب امهواء " بدلا من "طاب الهواء" - و الاصنجاع – وهو إمالة الألف على نحو مشطّ إلى الياء ، كما هو الشّأن في لهجات أسد وقيس وتميم - والتّلتلة – وهي كسر حرف المضارعة مطلقاً إلاّ إذا كان ألفا حسب ابن يعيش وما عدا الياء حسب البغداديّ نحو : "تِلعب" - والقَطْعة المنسوبة إلى طي – وهي ضرب من التّرخيم يتجسّد في قطع اللّفظ قبل إتمامه، نحو : "يا أبا صال "بدل " يا أبا صالح " - والعَجْعَجَة – وهي نطق الياء المشدَّدة جيماً نحو : "تميمِجّ" عوضا عن " تميميّ" وقد نسبت إلى قضاعة - والفَحفَحة في لغة هُذَيل - وهي نطق الحاء عَيْناً نحو : "عتّى حين" عوضا عن " حتّى حين" - والغمغمة – وهي الكلام غير البيّن – المنسوبة إلى قضاعة - والوكْم في لغة ربيعة - وهو جعل ياء أو كسرة قبل الكاف نحو : "عليكِمْ " و"بكِمْ - والعنعنة – وهي إبدال همزة "أنّ" المفتوحة عيناً وممّن اختصّ بها قبائل تميم وقيس وقضاعة- والفراتيّة - وهي السّرعة في الكلام وقد عُزِيت إلى أهل العراق ولغة "أكلوني البراغيث" عند بني الحارث بن كعب وطيء وأزد شنوءة نحو : ماتوا الرّجال وغيرها .
أمّا اليوم فيكاد كلّ قطر عربيّ يختصّ بلهجة يُعرف بها أهله ، فضلا عن وجود أكثر من لهجة في عدة أقطار .