الثعبان الآلي

يعمل تحت حرارة شمس محرقة. تحت نظرات رجال ونساء عابرين. تحت سقف سماوي لا حد له.تراه أعين مسافرين يشاهدون، عبر زجاج العربات، حقولا وبساتين وماشية...بفأس صغير يقلب التراب، يدفن تحته الحبات، يحفر ممرات للماء. يبدع قناة ري وسط الأحواض .رويدا رويدا تتسرب الحياة إلى أصناف النبات وأنواع الخضروات. يتصبب العرق من جبين مشبع بالتجاعيد. يمسحه بظهر كفه. يأخذ له نفسا عميقا. يتزود جسده بطاقة و حيوية. يرفع عينيه نحو الأفق فيلمح سحابة سوداء تركب مطية الرياح.سرب من الطيور فوق رأسه.بطونها منتفخة بما التقطته من ديدان أو اصطادته من حشرات.يحيي أشعة الغروب وهي تتستر وراء قمم عالية. يحس بنسيم عليل يداعب وجهه. كان بين الفينة والثانية يسمع صفارات إنذار تماثل دقات ناقوس أو رنات جرس. دقات ألفها و رنات اعتاد على صوتها. وقف في تلك الأثناء منتصبا يلتمس، بين أعواد قصب أخضر طويل، رؤية قاطرة تمر بسرعة خاطفة وتجر وراءها عددا من العربات كلها مكتظة بأناس. بنظرات فضولية ظل يتابع ذلك الثعبان الآلي وهو يتراقص ويتمايل على خط حديدي. عكس المرات الفائتة لم يتقلص، هذه المرة، حجمه وهو يبتعد عنه قبل أن يختفي كلية. بل ما نأى عنه سوى بضعة أمتار حتى ابتلعته فواهة واسعة لسور سميك ومتين. سور حديث العهد.انتهت أشغال تأسيسه منذ فترة قصيرة. ارتسمت على وجهه المنكمش أكثر من علا مة استفهام. انتابه شعور بالقلق والإضطراب. فأخذت تطفو على سطح مخيلته مشاهد وصور لحوادث سير عرفتها تلك المنطقة و حصدت العديد من أرواح الأبرياء...لا يدري كم مضى من الزمن على إقامته بمسكن متواضع بني من حجر وتراب ويكسوه لون طيني...لكن يعرف حق المعرفة أولئك الشهداء ويحفظ أسمائهم عن ظهر قلب بل يحتفظ بها في ذاكرته كأنهم أحفاده أو أصابع يده. عيناه حائرتان. بتلك الفواهة مازالتا عالقتان. ضربات قلبه في تصاعد مستمر وخفقانه يشتد بعد مرور كل دقيقة...فجأة عاد القطار مرة أخرى إلى الظهور من المنفذ الثاني للسور-النفق. زفر بعمق وقوة فاسترجع هدوءه واطمئنانه.رفع كلتا يدبه إلى السماء وتمتمت شفتاه بكلمات شكر وثناء.                                                         بقلم:  عبد القدوس أيت عبد الواحد    

الكلمات الأكثر شيوعاً