الكتابة العربيّة

تصنّف الكتابة العربيّة واحدة من أكبر الكتابات السّاميّة .وهي آخر مولود في الكتابات المنحدرة من الآراميّة. لقد أوفى العرب بعد استقرار الدّولة الأمويّة شروطَ العمران والتّطوّر الاقتصاديّ والسّياسيّ .وهي الشّروط التّي رأى ابن خلدون ضرورة توفّرها لبلوغ الكتابة مرحلة الانتظام والكمال. وقد أنجز الأنباط -وهم قوم من العرب- ومن بعدهم التّدمريوّن تلك الشّروط. لكنّ أيّا من لغاتهم لم تبلغ من النّفوذ ما يجعلها قادرة على منافسة الكتابتين الآراميّة أو الإغريقيّة في تلك المنطقة من العالم. وقد تأخّر ظهور كتابة خاصّة بالعرب لأنّ عرب الشّمال أبدعوا لأوّل مرّة حضارة بمقدورها منافسة الحضارة الآراميّة، مجسّمة في كتابتها. وبذلك انتقل العرب من حالة قبائل تعيش على عادات شفويّة بالأساس إلى ثقافة تقدّس المكتوب. وقد افتتحته أوّل كلمة من أوّل آية من الوحي العظيم "اقرأ". وسيأخذ تعظيم الكتابة في ما بعد أبعادا قدسيّة تتجسّد في تقسيم الأديان مثلا إلى من يحتكم إلى كتاب ومن ليس له كتاب. وقد بلغت هذه القُدسيّة أوجَها في فنّ التّخطيط باعتباره فنّا حاملا لأسرار الخلق (وبخاصّة لدى الصوفيّة).  وفي ما يهمّ الكتابة العربيّة التّي تكوّنت هويّتها ببطء، بفضل اقتراض الأشكال التي استُخدمت فيها من الكتابات المنحدرة من الآراميّة وتكييفها، نرى ضرورة التأكيد أنّنا لا نقصد بالكتابة العربيّة إلاّ كتابة اللّغة العربيّة الشّماليّة.وعندما نقول "عربيّة" نشير إلى اللّهجة العربيّة الشّماليّة التّي لا نميّزها عن العربيّة الكلاسيكيّة. وعندما نقول "كتابة عربيّة" نشير إلى ما نكتب به هذه السّطور. لكنّ" اللغة العربيّة" و "الكتابة العربيّة " و "كتابة العربيّة " ليست عبارات مترادفة .وهو ما يوجب عدم الخلط بينها. لقد دُوّنت اللّغة العربيّة أو بعض لهجاتها باستعمال تهجيات مختلفة كالتّهجية السّريانيّة التّي يطلق عليها اسم الگرشوني ولا تزال إحدى اللّهجات العربيّة ونعني بها لغة جزيرة مالطا – و ما هي إلاّ لهجة عربيّة تاريخيّا- تدوّن بالتّرميز اللاّتينيّ. وفي مثل هذه الحالات، يتعلّق الأمر بكتابة العربيّة. وتعود أوّل شهادة عنها إلى القرن السّادس قبل الميلاد،.وقد أنجزت في التّرميز العربيّ الجنوبيّ المعروف بالمُسند )لرسم الثّموديّة واللِّحيانيّة وبخاصّة الصّفويّة(. وينبغي أن نلاحظ أنّ هذه الكتابة كانت تلائم فونولوجيّا اللّغة العربيّة ملاءمة أشد من التّرميزات الألفبائيّة المنحدرة من الآراميّة، مثل السّريانيّة والنّبطيّة. فالنبطيّة لا تحوي إلاّ 22 حرفا في حين تشتمل الصّفويّة على 29 حرفا.    الألفباء العربيّة الجنوبيّة ذات ال 29 رمزا ) 1200 ق.م.( وقد تفرّعت عنها السّبئيّة -الحِميريّة والصّفويّة والثّموديّة والدّيدانيّة… والحبشيّة.    لذلك كانت الكتابات العربيّة الجنوبيّة قادرة على رسم ما يُسمّى بالحروف الروّداف وهي ستّة : غ ث ظ ض ذ خ. ويبدو ، حسب روبين ( Ch.Robin ) أنّ سبب تخلّي العرب عن هذا التّرميز الذي يلائم اللّغة العربيّة لاعتماد ترميز ثان منحدر من الآراميّة، رغم عدم ملاءمته، هو انهيار حضارة جنوب الجزيرة بعد هزيمتها أمام الأحباش الذين استعمروا الأرض، إذ قُوّضت الهالة التّي كانت تحيط باللّغة السَّبَئيّة وحضارتها. وينبغي التخلّي نهائيّا عن الفرضيّة التّي تزعم أنّ الكتابة السَّبئيّة )خط المسند( هي أصل الكتابة العربيّة. وهي فرضيّة دافع عنها الكثير من الباحثين العرب .وغالبا ما نجد لها صدى في كتب الأدب العربيّ. وليس لها أي أساس علميّ.  ولقد شاعت بين الباحثين أساطير عدّة عن أصل الكتابة العربيّة تقطع أغلبها مع التّقاليد الموجودة في المنطقة وتجعل من بعض أبطال العرب أصحاب اكتشاف الكتابة العربيّة وذوي فضل عليها. من ذلك ما ينقله البلاذريّ )ت 247 ه ) عن ثلاثة رجال من قبيلة طي )وهي قبيلة بدويّة كان فيها قبل الإسلام كثير من النّصارى) اقتبسوا الكتابة العربيّة من الخطّ السّريانيّ قرب الحيرة عاصمة اللّخميّين قبيل ظهور الرّسالة بقليل ثمّ لقّنوها أهل الأنبار ثمّ أهل الحيرة ومنها انتشرت حتّى وصلت قريش عن طريق نصرانيّ اسمه بشر الكنديّ كان كثير الانتقال بين الحيرة ومكّة. وممّا يجعل هذه الرّواية أقرب إلى الأسطورة منها إلى التّاريخ غرابة أسماء أبطالها وصورة السّجع التّي تجمع تلك الأسماء : مرارة بن مرّة وأسلم بن سدرة وعامر بن حدرة (انظر كذلك القلقشنديّ ،صبح الأعشى في كتابة الإنشاء، الفصل الخامس «في وضع الحروف العربيّة». وفيه أساطير وروايات أخرى)، إلاّ أنّ من اللاّفت غياب الأخبار أو الأساطير عن أصل نبطيّ أو تدمريّ محتمل ، على الرغم من تأكيد صلة القرابة بينهم وبين عرب الجزيرة.  وفي مقابل تخمة النّقوش بالتّرميز الجنوبيّ نجد أنّ النّقوش بالحروف الشّماليّة الآراميّة الأصل نادرة جدّا. وهي حسب التّسلسل التّاريخيّ: نقشان من الصّنف النّبطيّ، هما نقش أمّ الجمال الأوّل (250   م) و نقش النّمارة ( 328 م ) ونلاحظ فيه التأثير النّبطيّ وحوالي خمسة نقوش من صنف الحروف السّريانيّة. وهي نقش زبد (   512 م ) - وهو الأقرب إلى الكتابة العربيّة الحاليّة - وأسيس ( 528م ) والحيرة (560 م ≈) وحرّان ( 568 م) وأمّ الجمال الثّاني (وهو مؤرّخ بالقرن السّادس، دون تدقيق). السرياني ؟  ويُطرح الإشكال ، في الحقيقة ، بسبب تغييرات مهمّة جعلت الكتابة العربيّة تبدو كأنّها انبثقت كاملة مهيّأة للاستعمال من الوهلة الأولى. ويترك اختلافها الواضح عن نموذج حرّان الباب مفتوحا أمام كلّ الفرضيّات. فنقص المراحل الوسيطة هو الذي يجعل أصل الكتابة العربيّة لغزا محيّرا، لأنّ نقص الوثائق وعدم تواصلها التّاريخيّ والجغرافيّ هما سبب الإشكال الرّئيس. لذلك كانت الفرضيّات التّي تبحث في أصلها حلزونيّة، تتّبع الاتّجاهات التّي تحدّدها الاكتشافات الجديدة، فجعلتها تتأرجح بين الأصل النّبطيّ والأصل السّريانيّ. وما يبيّنه هذا التمشّي الحلزونيّ فيما يتعلّق بأصل الكتابة العربيّة هو ضعف الفرضيّتين وغياب البراهين القاطعة. لكنّها تؤكّد فكرة طرحها الباحثون عدّة مرّات (ديرنگار (Deringer)، وفيفريي(Février)، وكوهان (Cohen))، مفادها أنّ للعربيّة مصادر تأثير عدّة. ويلتقي هؤلاء في نقطة مشتركة هي أنّ شكل الكتابة العربيّة مشتقّ من النبطيّة لكنّ مظهرها العام متأثّر بالسّريانيّة. ولا جدال في أنّ المعطيات التّاريخيّة تثير مشكلة ، لوجود انقطاع حقيقيّ لا يمكن أن يفسّر بتطوّر النّبطيّة بين النّقائش الأخيرة ذات الشّكل النّبطيّ - أي أمّ الجمال (250) والنّمارة (328)- وبين النّقائش ذات التّأثير السّريانيّ - أي زبد (512)، ثمّ أسيس (528) وحرّان (568)-، إذ لم يُعثر على شواهد من الصّنف النبطيّ بعد القرن الرّابع. وتدفعنا فرضيّة الكتابة السّينائيّة المحدثة المنتشرة في كلّ أرجاء الحجاز، على طريق القوافل الرّابطة بين سيناء والخليج العربيّ، إلى التفكير في أصل نبطيّ دون نفي التّأثير السّريانيّ. وفي كلّ الحالات يبدو أنّ الأصل النّبطيّ والتّأثير السّريانيّ قد التقيا لإخراج كتابة عربيّة أصيلة قريبة في شكلها من السّريانيّة وقريبة في تشكيل حروفها من النّبطيّة (وبخاصّة الحرف المركّب «لا» الذي يسمّى «اللام ألف»). ولم يمنع انتشار هذا الصّنف من الكتابة من اكتشاف رسائل مخطوطة على البرديّ بعث بها الرّسول محمّد (صلعم) إلى ملوك حِمير مكتوبة بخطّ المسند (انظر دفيد كوهين Cohen (D.), «Un manuscrit en caractères sudarabiques d'une lettre de Muhammad», in GLECS, 1971, pp. 103-109).    الأقلام : وبعد شيوع الكتابة في الحضارة الوليدة ظهرت أقلام مختلفة أوجدتها الحاجة واختلاف وجوه الاستعمال. وأصبح للعرب أسلوبان أو قلمان يوجّهان شكل الخطّ العربيّ هما القلم النّسخيّ والقلم الكوفيّ. ويبدو القلم الكوفيّ أقدم من القلم النّسخيّ ، رغم ما يزعمه بعض مؤرّخي الكتابة العربيّة من الغربيّين ، إذ كُتب به أوّل مصحف قرآني.

الكلمات الأكثر شيوعاً