أصل اللّغة العربيّة ومسيرتها

أصل اللّغة العربيّة ومسيرتها     انشغل الإنسان منذ آلاف السّنين بأصل اللْغة لكونها جزءا من ذاته وجوهرا من حقيقته. ابتدأ التّفكير فيها غيبيّا خرافيّا أسطوريّا. فقد ذكر  المؤرخ اليونانيّ هيرودوت أنّ بسالميك ملك مصر عزل وليدين عن النّاس حتّى بلغا سنّ النّطق فكانت أوّل كلمة صدرت عنهما هي كلمة بيكوس . وهي تعني الخبز باللّغة الفريجيّة و ليست كلمة مصريّة.    وأرجعت الدّيانات السّماويّة اللّغة إلى أصل واحد إلهيّ .ففي البدء كانت الكلمة. وبها كان الكون. أمّا تنوّعها ففسّرته أسطورة بابل التّوراتيّة الإنجيليّة بأنّ النّاس كانوا يتكلّمون لغة واحدة هي العبريّة ثمّ إنّهم أرادوا عصيان ربّهم باجتماعهم وعزمهم على بناء قصر يبلغ السّماء. فبلبل الربّ ألسنتهم حتّى ما عاد يفهم بعضهم بعضا وانفرط بذلك عقدهم وخار حزمهم وتشتّتوا في الأرض مختلفة ألسنتهم (الباب 11 الآيات 1 إلى 9 من الإنجيل).    ولا نجد محاولة أولى لمقاربة مسألة أصل اللّغة مقاربة عقليّة إلاّ عند الإغريق. فقد أرجع بعض الفلاسفة أصل اللّغة إلى الطّبيعة (الطّبيعيّون Naturalists) . وأرجعها بعضهم الآخر (المواضعيّون conventionalists ) إلى المواضعة. ونشأت عن كلّ تصوّر منهما منهجيّة في المقاربة ونتائج فيها.    أمّا ثاني محاولة تنتصر للعقل فنجدها عند علماء العربيّة. فقد انقسموا بين معتقد في توقيفيّة اللّغة وجعلها من عند الله بناء على الآية الكريمة  : "وعلّم آدم الأسماء كلّها" -  وهم قلّة -    وبين من ذهب إلى أنّها مواضعة - وهم الأغلبيّة -  فابن جنّي، وإن عرض لقضيّة الأصل هذه وختم فيها بالقول ،  تقيّة في ما نرى ، "فأقف بين تين الخلّتين حسيرا وأكاثرهما فأنكفئ مكثورا، وإن خطر خاطر في ما بعد يعلّق الكفّة بإحدى الجهتين، ويكفّها عن صاحبتها، قلنا به وبالله التوفيق" (نفسه، ص 47)، وأطال ، إنصافا منه وعادة،  في عرض وجهتي النظر،  فإنّه وضع المسألة، ابتداء من صدر حديثه، في باب التأمّل ، مستدركا عليه بما يلي : "غير أنّ أكثر أهل النّظر على أنّ أصل اللّغة إنّما هو تواضع واصطلاح، لا وحي وتوقيف." (الخصائص ى /40) ولو كان يعتقد في توقيفيّة اللّغة لما عرّفها بكونها "أصواتا يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" نفسه، 33) فالله علّم آدم لغة واحدة أم لغات؟ ولو كان يعتقد في توقيفيّة اللّغة لمّا عقد الباب الخمسين من خصائصه  بعنوان "في أنّ ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب" ـفأمره مع القضيّة حينئذ ليس سوى الاستمتاع بتقليب النّظر واستطلاع الخفايا. بل إنّه فتح بابا لتأويل الآية تأويلا فسيحا مريحا وهو أنّ الله "أقدر آدم أن واضع عليها؛ وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة" (نفسه 40 ـ 41). فلم يعلّمه إيّاها حينئذ حرفا حرفا لا زيادة فيها بعد ذلك.    على أنّ أسطورة بابل التّوراتيّة الإنجيليّة تسرّبت إلى أروبّا  في القرون الوسطى واستمرّت تفعل فعلها حتّى القرن الثّامن عشر،  معطّلة بذلك التّفكير العقليّ في المسألة. ولم يمنع استمرار هدا الفعل وجود محاولات جادّة لتحطيم هذه الأسطورة تنسب إلى علماء لغة عرب ويهود ابتداء من القرن  التّاسع الميلاديّ من أمثال: يهوذا بن قريش التّاهرتيّ (نسبة إلى تاهرت الجزائر، عاش في القرنالمذكور) ومروان بن جناح القرطبيّ (ت 1050م) وابن حزم الأندلسيّ (ت 1064م) وأبي هارون موسى بن عزرا (ت بعد 1138م ) وأبي الحسن يهوذا بن شموئيل اللاّويّ الأندلسيّ ( ت 1141م).    وفي العقد التّاسع من القرن الثّامن عشر (1786) اكتشف السير وليام دجونز (Sir William Jones)      1746ـ1796) في عمل مقارنيّ وجوه التّقارب بين اللّغات السّنسكريتيّة والإغريقيّة واللاّتينيّة. وانتهى إلى أنّ هذه اللّغات من أسرة واحدة هي الأسرة الهنديّة الأوروبيّة ،  بل لها صلة بالغوتيّة  والسّلتيّة والفارسيّة . وفتح بذلك عهدا جديدا من النّظر التّاريخيّ في اللّغات ، إذ انتقل الفكر البشريّ في المسألة من الخرافة والأسطورة إلى الوقائع وتبيّن الباحثون أنّ العبريّة المتعالية ليست سوى فرد من أسرة أخرى هي الأسرة السّاميّة الحاميّة. وكان لاكتشاف السّير وليام دجونز أثر جليل لأنّه فصل بين الدّين واللّغة ودفع بالميثولوجيا إلى مقاربات أشدّ علميّة . وكان لاكتشافه اعتبار يشبه اعتبارنا اكتشافات رجال آخرين مثل غاليلو (Galileo) وكوبرنيكوس (Copernicus )  وداروين .      ظهرت التّسمية السّاميّة الحاميّة في أواخر القرن الثّامن عشر. وقد أطلقها المستشرقان الألمانيّان أوغست لودويغ شلوتزر (von Schlözer  August Ludwig ) و يوهان غوتفريد إيشهوم  (  (Eichhorn Johann Gottfried    ) بناء على التّصنيف التّوراتيّ للبشريّة المتطابقة مع أسماء أبناء نوح بعد الطّوفان وهم سام وحام ويافث وكنعان. وتتكوّن هذه الأسرة من ثلاثة فروع: شماليّ شرقيّ يضمّ الأكّادية والبابليّة والآشوريّة وشماليّ غربيّ يشمل الأوغاريتيّة والآراميّة والسّريانيّة واللّغات الكنعانيّة من فينيقيّة ومؤابيّة وعبريّة قديمة وجنوبيّ يضمّ العربيّة البائدة أو الجنوبيّة والثموديّة واللحيانيّة والعربيّة العاربة أو العربيّة الشماليّة والحبشيّة  من شماليّة (جعزيّة ) وجنوبيّة (أمهريّة ) على نحو ما يبيّنه هذا التّشجير:  ،  السّؤال التّاريخيّ الوقائعيّ بعد هذا هو متى ظهرت هذه العربيّة؟ والجواب المعقول الأوّل هو أنّه لا يمكن الصّعود بهذا التّاريخ أبعد من ظهور ما يوثّقه أي أبعد من الوثائق المكتوبة بهذه اللّغة. وتأسيسا على هذا فإنّ العربيّة الكلاسيكيّة أو الفصحى تعود إلى القرن الخامس الميلاديّ وقد سبقتها لهجات بقيت بعض آثارها مثل الثّموديّة – وهي  تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد  واللّحيانيّة و الديدانيّة والحسّانيّة – وهي تعود إلى القرن الثّالث حتى القرن الأوّل قبل الميلاد -  والّصّفاوية  -  وهي  تعود إلى القرن الثّاني قبل الميلاد واستمرّت حتّى القرن الثّالث بعده - وعربيّة أيوا  - وهي تعود إلى بدايات العهد المسيحيّ. وأقرب وثيقة إلى العربيةّ الفصحى هي نقش النّمارة المعروف بنقش امرئ القيس . وهو امرؤ القيس بن عمرو بن عدي ثاني الملوك اللّخميّين المنعوت بملك كلّ العرب حكم من 295 إلى 328.والنّقش مكتوب بالخطّ النّبطيّ المتأخّر .وقد عَثَر عليه، سنة 1901 في جبل الدّروز بجنوب سورية، عالما الآثار الفرنسيّان روني دوسّو  (René Dussaud) وفريديريك ماسيي    (Frédéric Macler) .وهو يعود إلى تاريخ 328 للميلاد. ولمّا كان النّصّ المنقوش على هذه الّصفيحة قريبا جدّا من العربيّة الفصحى فإنّه يمكن اعتبار هذه اللّهجة قد استوت لغة في حدود هذا التّاريخ أي في بداية القرن الرّابع الميلاديّ.            على أنّه ، في ما بدا لنا ، ثمَّ وثيقة أخرى يحسن أخذها بعين الاعتبار. فبين أيادي الباحثين نصّ طريف للفارابيّ (874 ـ 950م) في كتاب الحروف عرض فيه المنهج الذي اتّبعه علماء العربيّة الأوائل في ضبط مدوّنة النّصوص المعتمدة في دراسة اللّغة العربيّة. وقد جاء فيه على القبائل التي أخذوا عنها واعتبروها ممثّلة للعربيّة ، كما جاء فيها على القبائل التي لم يأخذوا عنها مشيرا إلى الأسباب التي دعتهم إلى ترك الأخذ عنها. وفيها مطلبنا. وترجع هذه الأسباب إلى مبدإ لسانيّ واحد .وهو أنّ اللّغات يتأثر بعضها بجوار بعض بسبب تأثر المتكلّمين .ولذلك فإنّ من يريد معرفة نظام لغة  مّا عليه أن يطلبه في لغة من لم يخالطوا غيرهم أولئك الذين لا يعرفون أصواتا لغويّة غير أصوات لغتهم ولا يعرفون ألفاظا غير ألفاظها ولا تراكيب غير تراكيبها. أمّا من خالطوا غيرهم فإنّهم سيخلطون أصوات لغتهم وألفاظها وتراكيبها بما يسمعونه من لغات غيرهم .وقد كان علماء العربيّة الأوائل على وعي بهذا المبدإ الأساس. فجمعوا وفقه المدوّنة التي اعتمدوها في اللّغة والنّحو. وتوكيدا لهذا الأمر قال الفارابيّ: "وبالجملة فإنّه لم يؤخذ عن حضريّ قط ولا عن سكّان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم؛ فإنّه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام؛ فإنّهم كانوا مجاورين أهل مصر والقبط، ولا من غسّان ولا من إياد؛ فإنّهم كانوا مجاورين لأهل الشّام، وأكثرهم نصارى يقرؤون بغير العربيّة، ولا من تغلب ولا من النّمر؛ فإنّهم بالجزيرة مجاورون لليونانيّة، ولا من بكر لأنّهم كانوا مجاورين للنّبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عمان لأنّهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة لولادة الحبشة فيهم، ولا من بني حنيفة وسكّان اليمامة ولا ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجّار الأمم المقيمين عندهم ولا من حاضرة الحجاز لأنّ الذين نقلوا اللّغة صادفوهم حين ابتدؤوا ينقلون لغة العرب (يحدّدها الفارابي بسنة 90 هـ) قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم." (الاقتراح، 44 ـ 45). فإذا كان حال تمدّد العربيّة في المحيط الجغرافيّ المجاور على هذا النّحو في بداية القرن الثاّمن الميلاديّ  - وقد قويت العربيّة بالإسلام والقرآن والدّولة وبتقهقر الإمبراطوريّات من حولها- فكيف يكون حال هذا التمدّد في بداية القرن الرّابع الميلاديّ في قوّة الإمبراطوريّتين البيزنطيّة والفارسيّة وضعف الإمارات العربيّة  التي كانت تؤدّي دور السّدّادة لموجات النّزوح العربيّة؟ لا شكّ في أنّها كانت أضعف وتأثّرها بغيرها أقوى. ولعلّ أهمّ ما نستنتجه ممّا سبق أنّ العربيّة التي لوحظت في نقش امرئ القيس لا يمكن أن تعكس حقيقة العربيّة في محيطها الأصليّ، محيط تفرّدها بوساطة التّخاطب في الجزيرة العربيّة. فلا شكّ في أنّها هناك كانت أشدّ اكتمالا وانتظاما أصواتا ومعجما ونحوا. ولذلك فإنّنا نذهب إلى أنّ نقش امرئ القيس هو علامة واضحة على امتداد الوجود العربيّ في العراق وسوريا في بداية القرن الرّابع الميلاديّ وشاهد على وجود نظام الخط ّالعربيّ أكثر ممّا هو صورة على حالة لغتهم في ذلك الوقت. ووجود اللّغات ليس رهين أنظمة الخط.ّ وممّا ينسب إلى شاعر تغلب عمرو بن كلثوم معبّرا فيه عن هذا التوسّع قوله ] طويل[ :   معاذ الإله أن تنوح نساؤنا **** على هالك أو أن تضجّ من القتل قراع السّيوف بالسّيوف أحلّنا**** بأرض براح ذي أراك وذي أثل فما أبقت الأيام م المال عندنا **** سوى جذم أذواد محذّفة النسل ثلاثة أثلاث؛ فأثمان خيلنا **** وأقواتنا وما نسوق إلى القتل.      ولذلك فإنّه إذا قصرنا العربيّة على العرب ، باعتبارهم عرقا أي على تلك القبائل البدويّة المترحّلة التي كانت تجوب البراري الواقعة ما بين الفرات ووسط الجزيرة حتّى حدود الحجاز ونجد أي دون اليمن وحضرموت حيث كانت تعمرهما قبائل أخرى مستقرّة، أمكن أن نصعد بهذه اللّغة قرونا. فإذا قضّت الفرنسيّة ، مثلا ، لتخرج من اللاّتينية سبعة قرون (من القرن الرّابع الميلاديّ إلى الحادي عشر) مع قرنين آخرين للاكتمال والهيمنة ممّا يعني أنّ سيرورة نشأتها واستواءها لغة قد استغرقا تسعة قرون .وإذا احتاجت الإنكليزيّة المعاصرة  إلى اثني عشر قرنا للانبثاق من الإنكليزيّة القديمة (من القرن الخامس إلى القرن السّابع عشر للميلاد) فإنّه قياسا لا نستبعد أن تكون الفصحى قد استغرقت نشأتها وبلوغها حدّا عاليا من الانتظام الصّوتيّ والصّرفيّ والنّحويّ والدّلاليّ والشّعريّ والأغراضيّ ما بين التّسعة قرون والاثني عشر قرنا .وذلك يرجع بدء نشأتها إلى ما بين القرن التّاسع إلى السّادس قبل الميلاد.   وبقيت هذه الحدود الجديدة للامتداد العسكريّ متحرّكة غير ثابتة في القرون الموالية. وكذلك كان حال العربيّة. كما أنّ تحوّل الملك من العرب إلى العجم كان له مفعوله وأثره السلبيّ  في اللّغة العربيّة. وعموما فقد ثبتت العربيّة إلى اليوم باعتبارها لغة أصليّة ورسميّة في الجزيرة العربيّة والعراق ّ ومصر والسّودان وشمال أفريقيّة، ولها أيضا وجود في مناطق أخرى باعتبارها لغة تداول لأجزاء من شعوب أخرى مثل النّيجر والتّشاد ومالي وإيران (خوزستان وعاصمتها الأهواز) وتركيّة (لواء إسكندرون وعلى الشّريط الحدوديّ بين تركيّة وكل من سوريّة والعراق) .      وفي بدايات القرن السّابع الميلاديّ انفتحت للعربيّة آفاق جديدة بمجيء الإسلام .فتوحدت الجزيرة من شمالها إلى جنوبها في حياة الرّسول (ص) أي  في أثناء عقدين من الزّمن فحسب. وبعد موته انطلق التّوسّع الإسلاميّ في كلّ اتّجاه :  شمالا سوريا وأناطوليا حتى أبواب القسطنطنيّة وشرقا العراق وفارس والجزء الأعظم من أفغانستان وبعده نهر جيحون حتّى ما صار يعرف اليوم بتركستان، وغربا مصر وكامل شمال إفريقيّة إلى سواحل الأطلسيّ ثمّ شمالا جبل طارق والجزيرة الإيبريّة فما بعد جبال البيرينيّ إلى فرنسا حيث بلغت جيوش المسلمين أفينيون وكركاسّون وناربون وبوردو. تمّ كل هذا في حدود قرن واحد من الزّمن. وهذا يعني أنّ ناطقي العربيّة بلغوا كلّ هذه المناطق وتكلّموا بلغتهم فيها وأوجدوا دواعي تعلّمها حيثما حلّوا. ولكن انتشار اللّغة لا يمكن أن يحدث بسرعة التّوسّع العسكريّ والدّعويّ ولا يمكن أيضا للعرب أن يرجّحوا كفّة العربيّة بكثافة ديموغرافيّة عالية في كلّ هذا الامتداد العظيم ، كما لا يمكن للشّعوب الأخرى أن تتقبل بسهولة هذه اللّغة وإن تقبّلت الإسلام دينا رهبة أو طمعا أو اقتناعا. ولذلك لم يكن انتشار العربيّة وترسّخها مطابقين  لانتشار الإسلام وترسّخه.   وبقيت هذه الحدود الجديدة للامتداد العسكريّ متحرّكة غير ثابتة في القرون الموالية .وكذلك كان حال العربيّة ، كما أنّ تحوّل الملك من العرب إلى العجم كان له مفعوله وأثره السّلبيّ  في اللّغة العربيّة. وعموما  ثبتت العربيّة باعتبارها لغة أصليّة ورسميّة في الجزيرة العربيّة والعراق والشام ومصر والسّودان وشمال أفريقيا .ولها أيضا وجود في مناطق أخرى باعتبارها لغة تداول لأجزاء من شعوب أخرى مثل النّيجر والتّشاد ومالي و إيران (خوزستان وعاصمتها الأهواز) وتركيا (لواء إسكندرون وعلى الشّريط الحدوديّ بين تركيا وكلّ من سوريا والعراق) .      وممّا قوّى العربيّة وما زال اقترانها بالنصّ القرآنيّ وتلازمهما منذ البدء. وعلى هذا، فكلّ من لهم صلة بالإسلام، سواء أفرادا أو جماعات أو أمما، لهم ولها، على نحو مّا، صلة بالعربيّة. ولذلك وَجَدت هذه اللّغة منذ القرن السّابع الميلاديّ عناية منقطعة النّظير صُرٍفت في سبيل دراستها واستنباط نظامها جهود رجالات أفذاذ تعاقبوا على العناية بها طبقات وأجيالا متلاحقة إلى يوم النّاس هذا. ومنذ القرن الثّامن (القرن الثّاني الهجريّ)، صارت العربيّة لغة العلم والإدارة في العالم القديم، وافتكت مواقع سابقاتها من لغات العالم الكبرى مثل اللاّتينيّة والفارسيّة واليونانيّة والسّريانيّة واستمرّ حالها في صعود إلى القرن الرّابع عشر حيث أصابها ما أصاب قومها من ضعف وتقهقر وصار حالها إلى ما وصفه ابن منظور وهو يؤلّف لسان العرب بقوله: "... وصار النّطق بالعربيّة من المعايب معدودا. وتنافس النّاس في تصانيف التّرجمات في اللّغة الأعجميّة، وتفاصحوا في غير العربيّة، فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون." (مقدّمة اللّسان).     ولم يزدها خضوع ما صار يسمّى بالعالم العربيّ للحكم العثمانيّ (عدا المغرب الأقصى) إلاّ تقهقرا، إذ صارت اللّغة التّركيّة لغة أجهزة الحكم بالولايات العثمانيّة طيلة ثلاثة قرون، إذ دامت هذه الحال حتّى مطلع القرن التّاسع عشر، عندما بدأ انحلال الإمبراطوريّة العثمانيّة وتكالبت القوى الاستعماريّة الغربيّة على تفكيكها بكلّ السبل وفي مقدّمتها تحريك المشاعر القوميّة العربيّة وتشجيع استعمال اللّغة العربيّة في الإدارة بدلا من التركيّة. ويمكن اعتبار حملة نابليون على مصر في نهايات القرن الثّامن عشر (1798- 1803) منعطفا حاسما في استعادة العربيّة لبعض ألقها التّاريخيّ، إذ ظهرت المطابع العربيّة والصحف السيَّارة. ثمّ كان الاستعمار الحديث المباشر وما نشأ عنه من حركات التّحرّر. وقد غذّى في بعض وجوهه الإحساس بالمشاعر القوميّة. ومن عناصرها الدّين واللّغة. فظهرت المجامع اللّغويّة. وأوّلها المجمع  اللّغويّ للوضع والتّعريب بالقاهرة( 1892) والمجمع العلميّ العربيّ في دمشق (1919) والمجمع العلميّ العراقيّ (1921) ومجمع اللّغة العربية الأردنيّ ( 1976 ) وبيت الحكمة بتونس ومجمع اللّغة العربيّة في السّودان (1993 ).    وأنشئ بتونس عام 1960 قسم اللّسانيات بمعهد الدّراسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الذي  أرسى أسس الدّراسات اللّغويّة الحديثة في تونس وشارك ضمن اللّجنة الاستشاريّة المغاربيّة في وضع الرّصيد اللغويّ الأساسيّ للمدارس الابتدائيّة الذي تبنّته بأسره ،  كما أنشئ معهد الدّراسات الصّوتيّة بالجزائر عام 1960 ومعهد الدّراسات والأبحاث للتّعريب بالرّباط عام 1960. وقد ساهم هذا المعهد في تطوير الآلة الكاتبة العربيّة والشّفرة العربيّة الموحَّدة للمعارف الحاسوبيّة وسعى إلى وضع أسس منهجيّة عامّة وإعلاميّة لمعالجة المصطلحات.    وتأسّس عام 1961 المكتب الدّائم لتنسيق التّعريب في الوطن العربيّ، ومقرّه  الرّباط. وكانت المنظّمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) هي المشرف عليه. وقد انبثق هذا المكتب عن مؤتمر التّعريب الأوّل الذي انعقد في الرّباط في أفريل  من عام 1961. ومن أهمّ ما قام به توحيده لمصطلحات  عشرين  علمًا إلى حدود عام 1981. وأصدر المكتب مجلّته اللّسان العربيّ منذ شهر يونيو عام 1964. ونشر المصطلحات العلميّة وقواميس في الرّياضيات والفيزياء والكيمياء والفقه والقانون والأشغال العامّة والسّياسة وغيرها من شؤون الحياة.   والعربيّة اليوم، رغم الصّعوبات التي تواجهها، هي إحدى اللّغات الستّ المعتمدة في الأمم المتّحدة. وقد تزايد طلب تعلّمها من قبل الأجانب بسبب الموضع الذي يحتلّه العالم العربيّ في الصراع الأمميّ الحالي.    

الكلمات الأكثر شيوعاً