أصول النّحو العربيّ

 أولّ من استعمل هذا المصطلح في عنوان كتاب هو أبو بكر بن السرّاج (316 هـ) في كتابه أصول النّحو. ولكنّ الناظر في محتوى هذا التّأليف يجد صاحبه قد قصد به قواعد النّحو المتداولة .وهو ما أومأ إليه أبو الفتح عثمان بن جنّي ( ت 392 هـ) في مقدّمة كتابه الخصائص حيث يقول : " وذلك أنّا لم نر أحداً من علماء البلدين تعرّض لعمل أصول النّحو، على مذهب أصول الكلام والفقه. فأمّا كتاب أصول أبي بكر فلم يلمم فيه بما نحن عليه، إلا حرفاً أو حرفين في أوله " (الخصائص، الهيئة المصريّة العامّة للكتا، ط 3، القاهرة 1986 ص ص 1- 2).      لكنّ ابن جنّي و إن كان يُعَدّ أوّل من ألّف في هذا العلم فإنّه لم يسمّ به كتابه هذا نعني الخصائص. ولكنّه أشار في صدر الكتاب صراحة إلى مضمونه وروحه حين قال: "ليس غرضنا فيه الرّفع والنّصب والجرّ والجزم، لأنّ هذا أمر قد فُرغ في أكثر الكتب المصنّفة فيه منه، وإنّما هذا الكتاب مبنيّ على إثارة معادن المعاني، وتقرير حال الأوضاع والمبادي وكيف سرت أحكامها في الأحناء والحواشي" (نفسه ص 31) .وهذا السّمت الذي أخذه البحث اللّغويّ العربيّ وهو تعليل النّظام وإظهار الحكمة في بنائه وانسجام القوانين المتحكّمة فيه والتي تُتبيّن فيه بلطف النّظر والتأمّل يتأسّس على وجهة نظر فلسفيّة ترى أنّ اللّغة العربيّة حكيمة البناء وأنّ العرب كانت واعية بتماسك بنائها "وإن لم ينقل ذلك عنها" (الإيضاح ص 65) وعلى الباحث فيها حينئذ أن يجتهد ويكدّ العقل لا ليستنبط قواعد اللغّة فحسب ولكن ليتبيّن أيضا عدم تضاربها. ويرجع تأسيس هذه الوجهة إلى أحد مؤسّسي علوم العربيّة العالم الفذّ الخليل بن أحمد الفراهيديّ حين سئل عن العلل التي يًعتلّ بها في النّحو فقيل له: "عن العرب أخذتها أم اخترعتها من نفسك؟ فقال: إنّ العرب نطقت على سجيّتها وطباعها وعرفت مواقع كلامها، وقام في عقولها عللُه، وإن لم ينقل ذلك عنها، واعتللتُ أنا بما عندي أنّه علّة لما عللته منه" .وإمعانا في تقريب الفكرة قدّم الخليل صورة مركّبة تذكّرنا برقعة الشّطرنج أو السّمفونيّة عند دي سوسير .فقال: "مثلي في ذلك مثل رجل حكيم دخل دارا محكمة البناء عجيبة النّظم والأقسام وقد صحّت عنده حكمة بانيها، بالخبر الصّادق أو بالبراهين الواضحة والحجج اللاّئحة، فكلٌما وقف هذا الرٌجل على شيء منها قال: إنّما فعل هذا هكذا لعلّة كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا، سنحت له وخطرت بباله محتملة لذلك." ثمّ إنّ الخليل ـ وقد جعل التّعليل أمرا احتماليّا ـ فتح الباب للمجتهدين فقال: "فجائز أن يكون الحكيم الباني للدّار فعل ذلك للعلّة التي ذكرها هذا الذي دخل الدّار، وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلّة إلاّ أنّ ذلك مما ذكره هذا الرّجل محتمل أن يكون علّة لذلك. فإن يكن سنح لغيري علّة لما عللته من النّحو هو أليق ممّا ذكرته بالمعلول فليأت بها." (نفسه ص ص 65 ـ 66) وعلى هذا فالتّعليل ،في حقيقة الأمر، نشأ مع التّقعيد .وكتاب سيبويه مبثوث بالتّعليل وخاصّة في مواضع الحذف والتّقدير.     أمّا استقلال علم الأصول فرعا خاصّا من التّأليف فكان متأخّرا (القرن الرّابع) .وأمّا تسميته فقد سبق إليها أبو البركات الأنباريّ ( ت 577 هـ) في كتابه لُمع الأدلّة في علم أصول النّحو حيث يعرّفه قائلا : " أصول النّحو أدلّة النّحو الّتي تفرّعت منها فروعه وفصوله، كما أنّ أصول الفقه أدلّة الفقه الّتي تنوّعت عنها جملته وتفصيله ". ( لمع الأدلّة في أصول النّحو ، تحقيق: عطية عامر، المكتبة الكاثوليكية ـ بيروت، 1963 ، ص 227) . ثمّ نسج على منواله عبد الرّحمان جلال الدّين السّيوطيّ ( ت 911 هـ) في كتابه الاقتراح في علم أصول النحو وجدله حيث يصف هذا العلم بقوله : " هو بالنّسبة إلى النّحو، كأصول الفقه بالنّسبة إلى الفقه " (الاقتراح في علم أصول النحو وجدله، تحقيق طه عبد الرّؤوف سعد، طبعة مكتبة الصّفا، القاهرة 1999 ص 17). لكنّ تقريب أصول النّحو من أصول الفقه وتشبيهها بها فيه إجحاف بأصول النّحو لأمر بسيط .وهو أنّ أصول الفقه نقليّة وأصول النّحو عقليّة لاستنادها إلى فكرة الحسّ في مستوى الأداء النّطقيّ التّصويتيّ وفكرة النّظام في مستوى الأبنية والعلاقات النٌحويّة والأمارات الدّالّة عليها. وأوّل من تبيّن هذا الفارق وأعلن عنه هو ابن جنّي في خصائصه وتحديدا في باب ذكر علل العربيّة أكلاميّة هي أم فقهيّة (وهو باب طويل 48 ص) الذي يفتتحه بقوله: "اعلم أنّ علل النّحويّين ـ أعني بذلك حذّاقهم المتقنين، لا أفافهم المستضعفين ـ أقرب إلى علل المتكلّمين منها إلى علل المتفقّهين. وذلك أنّهم إنّما يحيلون على الحسّ، ويحتجّون فيه بثقل الحال أو خفّتها على النّفس، وليس كذلك حديث علل الفقه. وذلك أنّها إنّما هي أعلام وأمارات، لوقوع الأحكام، ووجوه الحكمة فيها خفيّة عنّا، غير بادية الصفحة لنا؛ ألا ترى أنّ ترتيب مناسك الحجّ وفرائض الطّهور والصّلاة والطّلاق وغير ذلك، إنّما يُرجع في وجوبه إلى ورود الأمر بعمله. ولا تعرف علّة جعل الصّلوات في اليوم واللّيلة خمسا دون غيرها من العدد. ولا يعلم أيضا حال الحكمة والمصلحة في عدد الرّكعات.ولا في اختلاف ما فيها من التّسبيح والتّلاوات؛ إلى غير ذلك ممّا يطول ذكره ولا تحلى النّفس بمعرفة السّبب الذي كان من أجله. وليس كذلك علل النّحويْين. وسأذكر طرفا من ذلك لتصحّ الحال به." (الخصائص ى/48) .  

الكلمات الأكثر شيوعاً